Saturday, April 26, 2014

من أسر المحتل الى أسر العقل

حدثني عن حياته خارج السجن، ذاك الأسير المحررأقصد المحرر سابقاً من سجون الاحتلال وحسب، فالاحتلال ما زال قائم ونحن ما زلنا سجناء هذه المنظومة الاستعمارية ككلحدثني ايضاُ عن صعوبة التأقلم مع المحيط الجديد-القديم، وخطبته من إحدى فتيات العائلة والتي تصغره بسبعة عشر عاماُ، وكيف انه ما زال لا يصدق أنه في مدينته الغالية ... بعد كلِ ما جرى!

"فجروا بيتنا في البلدة القديمة بعد ما اعتقلوني في الانتفاضة الأولى" قال ثم أخرج مفتاحاُ من ظرف كٌتبَ عليه بالعبري كلمات لا أفهمها، كان مفتاحاُ حديثاً لا يشبه مفتاح الرمز القاتلمفتاح العودة- ثم أكمل حديثه قائلاُ : " هذا ما تبقى لي من حياتي القديمة... هذا المفتاح، وحزام البنطال الذي اعتقلتُ به".

قدمتْ خطيبته لنا القهوة مع قطعةٍ من الحلوى, ومع انشغال خطيبها في الرد على هاتفه اغتنمتُ الفرصة لأسألها  عن تجهيزات زفافهم المنوي عقده بعد شهرين.." إنشالله كل اثاث البيت بكون جاهز قبل هيك بوقت "  قالت باقتضاب، ثم ابتسمت لخطيبها الذي عاد ليجلس معنا، بينما غادرت هي لتحضر الشاي، أو ربما لتسلي ابنة عمها في الغرفة المجاورة، أو لربما قد أصابها الملل من كلام خطيبها المتكرر عن السجن، أو الملل من وجود الصحفيين في بيتهم.

"قديش عمرِك؟ من وين تخرجتي؟" أجبته عن أسئلته تلك ثم سألته بدوري... أنتَ قضيت ربع قرن تقريباً في سجون الاحتلال. كيفَ كنت تستقبل المراحل السياسية التي مرت بها القضية الفلسطينية وأنت داخل المعتقل؟

 أخذ نفساً عميقاً ثم انطلق يحدثني:
"من الانتفاضة الأولى..لمؤتمر مدريد..لتوقيع اتفاقية أوسلو..للانتفاضة الثانية..لموت الشهيد القائد أبو عمار, لفوز حماس بالانتخابات..للاقتتال الداخلي والانقسام. أوسلو قضت على الانتفاضة..أسلو مصدر المصايب اللي عايشينها لليوم"

هنا تدخل "المراقب" – ذاك الرجل التابع لسلطة أوسلو و الذي يجلس قبالنا ويراقبنا بطرف عينيه وقال مقاطعاً حديثنا:
"اسمح لي بس مخطط أوسلو لو الاحتلال مشوا عليه كان جلب لنا الكثير من الفوائد..المشكلة انه احنا مازلنا بمراحل اوسلو الابتدائية "

استغربتُ من وقاحة هذا الرأي السياسي فقلت له:" اقل ما فيها من سوء, وهو مش قليل ابدا,انه اوسلو تجاهلت قضية الأسرى تماماً"  

هز الأسير السابق رأسه موافقاً وقال: "نعم صحيح..بعد عشرين سنة من العذاب أطلقوا سراحي..أطالب بمحاسبة كل المفاوضين الذين مازالوا يفاوضون على حسابنا بينما يقبضون الرواتب والسيارات والبيوت الفخمة."

 "ما رأيك بالتنسيق الأمني؟"

 "التنسيق الأمني؟" سأل متلعثماً.

 "نعم, التنسيق الأمني. بين أجهزة السلطة والاحتلال" أجبته مؤكدة على ذلك.

 نظرَ إلى المراقب بطرف عينه ثم قال: "التنسيق مش اشي سيئ..ما تفهمنيش غلط..بس يعني اذا الجنود الاسرائيلية بدهم يسهلوا السير، أو يفتحوا طريق لحالات طارئة فمش مشكلة"

"أقصد الاقتحامات والاعتقالات السياسية" وضحتُ له، فقال المراقب فجأة وبشكل حاد : "فش اعتقالات سياسية, هذا ليس من نهج السلطة" نظر الأسير السابق إلى رجل الكنبة وركز بصره عليه، مرت لحظة صمت مشحونة بالتوتر. فقمت بتغيير سؤالي على الفور:

"كيف تنظر لموقف السلطة من القضية ككل؟"

"السلطة وجدت لبناء مشروع تحرري دولي. ولكن من الواضح أنها ارتكبت الخطأ في بعض الأمور، ويجب عليها أن تهتم أولاً بالمقاومة لنتخلص من الاحتلال ثم نبدأ بالعمل الدولي"

"وهل تعني لك فلسطين الضفة وغزة فقط؟"

"فلسطين كامل التراب..الضفة وغزة زائد يافا وعكا والنقب والجليل"

"لكن السلطة لا تشاركك رؤيتك هذه!"

"نعم..أقصد..هذه هي فلسطين، كامل التراب" قال ذلك وأخذ يحدق بالرجل المراقب.

"برأيك, ما هو دور فتح هذه الأيام؟ هل تم احتوائها من قبل السلطة أم أنها ما زالت تعتبر فصيل له دور جوهري في خدمة الشعب الفلسطيني؟"

 تدخل المراقب وأجاب بابتسامةٍ فشلت من الوصول لعينيه: "مش أنا اللي نظمتك؟ فتح هي الأساس،فتح أوجدت المقاومة، ولها بعد نظري تتسع لاستراتيجيات أخرى مثل المفاوضات، وفتح ضحت بزينة شبابها وشاباتها أيضاً وشاركت في النضال وتركت أثراً في كل مرحلة من مراحل تاريخنا..."

 قطعتُ حديثه، ووجهتُ سؤالي للأسير السابق: "كيف استقبلتم أخبار الانقسام بين فتح وحماس؟"

 "والله اشي مشين..يعني عيب يصير هيك بين إخوة وأبناء بلد وقضية واحدة..حرام يصير هيك. بس حماس, الله يسامحها تنحت وشافت حالها بمنصبها السياسي وفركشت كل عمليات التصالح..بدهمش يلغوا الانقسام, بدهم السيطرة على غزة والضفة كمان..وإحنا كنا مستعدين نتخلى عن شروطنا إذا حماس وافقت تلاقينا بنص الطريق..بس بعرفش, شايفين حالهم همي الصح وكل حدا تاني غلط "

هزَّ المراقب رأسه بحرارة موافقا على كلام الأسير السابق.

"وفتح ما الها مصلحة باستمرار حالة الانقسام؟ معلش, اظن هيك سألت كل شي..اه بس آخر سؤال, شو مخطط لحياتك؟"

انفرجتْ ملامح وجهه،وأجاب مبتسماً: " إن شاء الله سأتجوز وأنشئ عائلة, هذا الحق الذي منعني إياه الاحتلال, وسأظل أحدثُ الناس وأذكرهم بقضية ومعاناة الأسرى"

انتهيت من الأسئلة وبقينا جالسين لشرب الشاي، حينها أستغل المراقب فترة الصمت تلك، ليخطب فينا عن أمجاد حركة فتح.

 ودعت الأسير السابق، وعلمت لاحقاً أنه ممنوع من التواجد في مناطق معينة من مدينته لأسباب "أمنية".

ولسوء حظي، دخلتُ أنا والمراقب المصعد سوياً، ابتسم ابتسامة باردة وسألني : "لأي موقع رح تنشري المقابلة؟"

"لسة ماحددت"

"اه بس ما تذكري كلامي"

"أكيد ما رح اذكر!"

 ثم أخذ يعيد كلامه: "إحنا في مراحل أوسلو الابتدائية"

 "لا يا شيخعشرين سنة ولساتنا في المراحل الابتدائية!"

"فتحمن ثورة إلى دولة. إحكيلي, مين من الحركات الثورية في العالم كله أنجزت دولة مثلنا؟ بدك تقولي روسيا؟ شو صار بروسيا! انقسمت لأكثر من بلد..ولا الجزائر, بلد المليون شهيد..لا يا بنتي, فتح الوحيدة اللي أنجزت. صار عندنا دولة"

خرجنا من المصعد وركبنا السيارة. تجاهلته في البداية، ثم من باب إيذاء النفس سألته : "والاعتقال السياسي؟"

"لعلمك..في الضفة فش ولا سجين سُجل تحت الاعتقال السياسي. أجهزة الأمن بتروح وبكون معها ورقة قانونية تخبر الشخص بالاعتقال, وكل التهم بتكون تهم جنائية وليست سياسية"

"والشاب من مخيم عسكر..شو كانت تهمته الجنائية؟"

"هاد واحد وسخ..إنتِ بتعرفيش هالحكي لإنك بعدك صغيرة.... كل التحية طبعاً, احنا لازمنا شباب وصبايا مثلك..بس هدا الشخص معروف عنه بتاجر بالمخدرات والسلطة كانت حاطة عينها عليه من سنين"

صفنتُوخبأت الاشمئزاز بابتسامة ساذجة سريعة, فالشاب الذي كان يوزع مناشير ضد المفاوضات, حولوه لتاجر مخدرات!

فجأة، قطع الصمت وقال:" أسألك سؤال..انتِ لما رحتي على غزة مش طلبتي إذن من إسرائيل؟"

"القصة مش طلب إذن .."

"مبلا, طلبتي إذن!"

"هذا اسمه احتلال-"

"بالضبط.. هاد هو." ابتسم ابتسامة المنتصر وهو يحدقً في وجهي، وكأن عينيه تقول, تحديني... أنا وفتح على يقين، وأنتِ فتاة ساذجة.

عزمني على كنافة، فرفضت بشدة، إلا أنه أصرَّ على ذلك، وبدلاً من أن يقوم بإيصالي إلى مجمع السيارات العمومية، قام بركن سيارته على جانب الرصيف وفتح الباب، ثم اخذ يحدثني عن أمجاد حركة فتح في الثمانينات، وعن دوره في الشبيبة الفتحاوية، وقصص أخرى عن فتيات غزة -"إنتِ ما بتشبهيهم ع فكرة"-وكيف كُنَ يجلبن له السمك كل يوم و لمدة ثلاثة شهور.

 إنه الإستشراق الداخلي، كذبه جعلني اشعر بالملل والقرف والعصبية. أنا الفتاة الصغيرة, الصحفية الساذجة, أبتسم لكي أخفي نظرة عيني الحاقدة, أعض على لساني كي لا ينزلق كلامي مني  وأصبح تحت مراقبتهم.

 بلعت لقمة الكنافة بصعوبة، كانت الاسوء رغم مذاقها الطيب. دفع الحساب، ووعدني بزيارة خاصة كي يحدثني  عن تاريخ فتح المجيد أكثر وأكثر، ثم أخيراً...انصرف.


من ثورة لدولة. من ثروة تجنيها بالتنسيق الأمني لعلاقة حميمة مع "الطرف الآخر." غيرتُ طريق عودتي، فقد اعتدت إن أردتُ افرغ راسي من الكلام المنقوع بالخراء، أن أتمشى بلا هدف في شوارع المدينة, الهواء يتسللُ رويداً رويداً، بعد نهارٍ حار بين جبلي عيبال وجرزيم, الشمس تنحدرُ و تغرب, كل شيء في تواري وانتهاء... وحدها طائرات الf-16" "تحلق في سماء نابلس.


No comments:

Post a Comment