Tuesday, July 22, 2014

(II) موسم الاجتياح, والكلاب


مدينة غزة, آذار ٢٠١٣


أبي عندي. ينتظر شغل جديد. برنامجنا عبارة عن الالتصاق باللابتوبات لمتابعة الأخبار كل دقيقة. نسينا نعاتب رمضان كما تعودنا في أول الاسبوع من هذا الشهر الفضيل. (أنا مش صايمة - أصلا الصيام حرام إذا بيشبه العذاب ونمتنع من الأكل لعشرين ساعة - مفروض نسافر على جنوب أفريقيا, الساعات هناك أقل - إذا صمت رح أفطر على توقيت القدس مش مكة لأنه فيها كفار ). نسينا كل هذا. قبل ساعة من الافطار نريّح اعيوننا نذهب الى المظبخ. عليه الطبخة الرئيسية -بامية, ملوخية, كشك - وأنا علي إحضار السلطة والشوربة. نفطر. والشاشات مازالت مفتوحة. بعدها, الأنشط منا يعمل القهوة ونقعد ونتحدث عن الأوضاع والسياسة, عن المقاومة, عن ستي, عن موشيه عباس.

- بقولك الصواريخ عبثية..في أكبر جاسوس من هيك؟ المتحدث الرسمي للاحتلال!
- كلب ابن كلب
- بابا, تستخدميش كلمة خرا أو فاك على تويتر, بيضر بسمعتك كصحفية

كل شيء بالتدريج. نجحت باستخدام إشارة البعبوص أمامه كلما نتكلم عن السلطة دون اي عقوبات او محاضرات: محمود عباس - خذ !- وجمال نزال - يوخذ هو الثاني -  وعريقات - خذ خذ خذ!

المقاومة ترفع معنوياتنا. نغيّر كلمات اغاني صباح فخري ( ابعتلي صاروخ, صاروخ, صاروخ وفجّرني ) ونضحك زيادة عن اللزوم. أحاول أقرأ وأكتب رسالتي ولكن دون أي جدوى. اذهب الى غرفتي واشاهد فيديوهات القصف على بيوت الناس ومشاهد تعصر القلب مثل دموع وتضرع أبو ساهر النانوس فوق جثة ابنه ( جبتلك لعبة يا بابا!) وردة فعل الأم والأب بعد ما انكشف لهم اولادهم في ثلاجة المستشفى وصدى صراخ الإم يدوي في رأسي: يما يا اولادي يما! ردوا علي يما!سامحوني يما!

أبي سافر ليبدأ حياته مرة اخرى في بلد ما. عائلات بأكملها استشهدت سويا. حمد, البطش , كوارع, حلبي, الحاج, أبو دقة, أطفال عائلة بكر وعائلة شهيبة. عاهد وزكريا ومحمد واسماعيل بكر, أولاد عم..لقطتهم عدسة قناة فرنسية وهم يركضون بعد ما استهدفتهم أول قذيفة على شاطئ بحر غزة.. ومع إطلاق القذيفة الثانية لم نرَ سوى الدخان ..ثم أجسادهم الممزقة مرمية على الرمل مثل الدمى. قُضي على أربعة قلوب, ودُمّرت حياة ذويهم. صراخ ولطم وتكفير من أهاليهم.. العواطف الخامة تنطلق من حناجرهم..الثياب تشققت.. وبعد بيوم, ارتقوا فلّة وجهاد ووسيم إلى ربهم.. كانوا يلعبون مع الصيصان على سطح بيتهم. ما هي الفكرة من طيور الجنة يا الله؟ ما هي العبرة من أن تمتحن الأهالي بفقدان أطفالهم بأبشع طريقة ممكنة؟ أن يذوق الوالدان بطعم الصبر المرير؟

مشان الله, بيكفي. تخليش طائرات الموت تقتل أطفال

(( ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون ان كنتم مؤمنين ))

أخرج وأشاهد بزوغ الفجر - بعد ساعتين من فلسطين - وألاحظ التفاصيل الصغيرة في الشارع. كل عمود كهرباء مزين بالورد ولكن لم تنتبه إلا إذا رفعت رأسك.

لا أجرؤ على الاتصال بأهلي هناك. أركن ظهري على الحائط وأصل إلى مرحلة الانهاك. أفيق ويصيبني الفزع - اسم المرأة, اسمها, شو اسمها, اللي استشهدت في مبرة الرحمة؟

اسمها سهى. سهى أبو سعدة, ٤٧ سنة. من الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. عندما عثروا على جثتها, كانت فاقدة لأحدى رجليها. علا وشاحة استشهدت في نفس الغارة على المبرة.

- يا ربي ارحمني

قصف عنيف. الخوف والعجز مرة أخرى. صفارات الإنذار تدوي في القدس وتل أبيب وحيفا. نفرح وينشرح صدرنا.

- إلي من مبارح ما نمت

هُدّمت البيوت. ألاف من الناس أخلوا مناطقهم وذهبوا إلى مباني وكالة الغوث. ادركنا بمعركة السودانية شمال غزة وكيف أوقعوا وحدة خاصة من الاحتلال في كمين نصبته القسام. نمشي بقامة منتصبة.

- خلصونا اقصفوا الدار, نعسااان

 هذه ليست أمنية أنس قنديل. أنت تعلم ذلك يا الله.

(( بل احياء عند ربهم يرزقون ))

سهرت ليلة وفاتني آخر قطار. وقفت تحت أراضي المدينة بشكل ثابت وعمال الليل يراقبونني بطرف اعينهم. ركضت صديقتي على المحطة, مسكتني وجرّتني الى مكانها. اتابع الاخبار. 

وصلت لمرحلة دنيئة جدا بسبب عدم القدرة على فعل اي شيء مؤثر, او التجميد بسبب الخوف, أو كره جزء ولو بسيط من نفسي, او الثلاثة. الأنانية مقززة. 

لأول مرة نمت قبل طلوع الشمس. لم اتصل بعد. قلبي يدق يدق يدق. 


Thursday, July 17, 2014

(I) موسم الاجتياح, والكلاب


"اصلا اسرائيل بتُقصف فينا في الشتاء عشان نتدفى .. قولوا عنها عاطلة ."
"عااااااطلة!"*


صورة التقطها بعد العدوان على غزة ٢٠١٢

امي لها عادة مخصصة كلما تستنفر إسرائيل بغزة. مع كل عدوان, كانت تبسط أمام التلفاز ٢٤ ساعة. كنت أنام في سريرها بعد ما وضعت فرشة قبال التلفاز. في النهار, تجلس على الكنبة وتقلب بين قنوات الأقصى والجزيرة وفلسطين اليوم واحيانا الميادين, بينما تشتم قناة فلسطين ومسلسلاتها السخيفة  ب ( ياخونة يا كلاب!) التي تتجاهل الوضع في غزة.

في الليل, تتمدد على الفرشة تحت البطانية وتشاهد الأخبار وصور المجازر لحد ما تطلع الشمس. بعد غفوة قصيرة تعيد الروتين ابتداءً مع فنجان القهوة, وأراقب تعمق الدوائر والسواد تحت عينيها يوما بعد يوم.

مرّات, تتصل وأنا في شغلي لكي تطمئن.

- وينك؟
- بالمكتب
- مطولة؟
- آه, رح أضلني لليل
- مفروض يدفعولك أكثر
- طيب
- تنسيش توكلي

أحياناً, بكذب وبقول اني في المكتب ولكن الحقيقة هي أنني أسير في الشوارع أحاول الفرار من المدينة الوسخة وسكانها. رام الله من أحقر المدن التي يمكن أن يعيش فيها الانسان. أهرب من شارع ركب ( سكروا محلاتكم يا كلاب , اللي استشهدوا مش أرقام, سكروا محلاتكم ) وأجد نفسي في منطقة المصيون , أو الطيرة أو بطن الهوا أو الشرفة أو البالوع. أبحث بشكل محموم عن ذرة من الاكتراث في وجوه الناس, ذرة من الغضب، ذرة من الكرامة. ولكن..تبقى بعيدة المنال.

- وينك
- أنا…بإجتماع

الحقيقة انني في طريقي إلى بيتونيا. وصلت سجن عوفر وأقف خلف الشبان الأقرب إلى البوابة والذين لا يزيد عددهم عن خمسة عشر. جنود الاحتلال موجودون هم أيضاً. اليوم بليد جدا. الجنود يشغلون أنفسهم برمي عدد من قنابل الغاز وقنابل الصوت بين الفينة والأُخرى. لا داعي للهتاف هنا. لا أعرف أحدا ولست خبيرة برمي الحجارة. عندما وصلت الأمور إلى ردح وشتائم بالعبري الموجهة الى الجنود من قبل الشباب, سحبت حالي ورجعت لوسط المدينة, اليأس مترسخ في عظامي.

 أمّي لا ترى أي هدف من مسيرات رام الله, وكالعادة كنا نتجادل أنا واختي معها كلما خرجنا.

- هدول بدهم صواريخ, مش تروحي إنت وأختك على الهبل السلمي تبعكم وتهتفوا يلا ارحل يا احتلال
- طب اذا هتفنا يا قسام يا حبيب اضرب اضرب تل ابيب؟
- أحسن! عشان ييجوا يوخدوكم الكلاب. مش ناقصنا مصايب.

كنت أتضايق من موقفها رغم أنني متفقة معها, ولكن في ظل الظروف التي نعيشها، المسيرات البايخة كانت على ما يبدو الوسيلة الوحيدة للعمل. ما هو المانع من تحويل حاجز قلنديا العسكري الى ساحة نضالية؟ حاجز الخوف والسيطرة النخبوية. بعد كل مسيرة كنت أكره نفسي أكثر. نحن الأبناء المدللون لهذه المدينة الحقيرة التي تتضامن مع أهلها في غزة عبر الشموع والاحتجاج الحضاري والهتافات المؤيدة لدولة العملاء, دولة أيلول.

هذه المدينة.. كم أبغضها! كل يوم كنت أمشي جنب جدران المقاطعة لأصل بيتي.. ومع كل خطوة الكراهية تغلف حالها إلى كرات معدنية في حفرة نفسيتي. لا يأتيني النوم, وقبل أذان الفجر صوت التدريب ل " رجال الجدد " يصل بنايتنا وأنا أغلي, أغلي.

في عدوان ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩ , خرجوا وانهالوا علينا بالهراوات والكلام البذيء والغاز. عدنا بعد المعركة وجرست امي بالمطبخ, رائحة الغاز تعشش في ملابسها ووجهها شاحب اللون.

 -الله ينتقم منكم , الله يوخدكم ويريحنا منكم .. هدول بشر؟ هدول فلسطينيين؟

( هدول كلاب )

في عدوان ٢٠١٢ , كرّسوا في عقول المواطنين المهذبين الصالحين نمط التظاهر الحضاري ثم حولوه إلى تضامن حضاري متمركز في أوساط المدن بعيدا عن أماكن الاشتباك. خرجنا باتجاه مستعمرة بيت إيل وقمعونا. خرجنا مرة أخرى واخواتهم بالرضاعة, الاحتلال, ضربونا. في المرة الثانية, شاهدت أمي على التلفاز اعتقال أختي ولاحقا, الضرب الذي لحقت بي وبغيري.

وفي عدوان ٢٠١٤, تبين لي أن المسافة بين رام الله وغزة, ولندن وغزة هي نفسها. أسير بين الشوارع مرة أخرى, أفر من شعور العجز والخوف على أهلي, أتابع الأخبار, لا انام, الجبن يحتاجني, والحوار الداخلي يخلخل عقلي. اتصلي يا بنت, اتصلي بأهلك واطمئني عليهم. لأ, بديش. طالما فش اخبار يعني لساتهم عايشين. ولك اتصلي يا جبانة, اتصلي. خلص!

مسيرات هذه المدينة ايضا لا تختلف عن عاصمة أوسلو الا بالكم الهائل من المتظاهرين. هنا أيضا تحيط بنا الكلاب, ومساحة التظاهر محددة, ونعم لها وقت معيّن, والهتافات سلمية بايخة رقيقة مضجرة. القمع ليس موجود, ولا داعي له أصلا بما أننا نلتزم ونفرض على أنفسنا قوانين النظام الحاكم. أتشاجر مع الناس, افرز عصبيتي أخيرا بالذي رفع علم حزب الله, أمزع يافطة الشخص المعتوه الذي كُتب عليها "هتلر كان على حق", امتص جو الكرنفالي وصور ال"selfies" للمتظاهرين بالكوفية وعلم فلسطين  المرسوم على وجوههم, وأكره نفسي. أحس بالعزلة. شعور العجز يتفوق. الاختناق يزيد. ولم اتصل بأهلي.




*تصريح عمي محمود عندما ذهبت الى غزة مباشرة بعد عدوان ٢٠١٢, والرد كان من الجميع في البيت